وجدت نفسي بين عشية وضحايا أرتدي بزّة حربية ثقيلة لأقف في الصفوف الأولى لمحاربة عدو مجهول
بين جنبات صدورهنّ سكنت آلام وأحزان طبعت يومياتهنّ لما يقارب السنة، كنّ فيها واقفات في الصفوف الأولى للجيش الأبيض رغم بقائهن في الظل، بعيدا عن الأضواء، عانين تداعيات الجائحة المستجدة على حياتهن الشخصية والمهنية، فكان الانهيار العصبي للكثير منهن المنفذ الوحيد للخروج من ضغط كبير سيطر على حياتهنّ لدرجة تأثيره على علاقتهن بأزواجهن وأبنائهن.
اختارت «الشعب» في اليوم العالمي للمرأة، أن تكون العاملة في السلك شبه الطبي ومستخدمات الصحة عنوان استطلاع، يتطرق إلى تفاصيل يومياتهن على مدار سنة كاملة من إعلان حالة الطوارئ الصحية، لتسلط الضوء على معاناتهن ومقاومتهن ومحاربتهن كل أنواع الإقصاء الاجتماعي والإداري بتصنيفهن دائما في الخطوط الخلفية في الترتيب المهني لقطاع الصحة.
نصيرة شرقي...
كانت فترة عصيبة امتزجت فيها مشاعر متناقضة، بين حزن وفرح، ضعف وقوة، ضغط وارتياح، تعب وراحة... عجزت التقني السامي في التخدير والإنعاش بالمستشفى الجامعي مصطفى باشا، نصيرة شرقي، عن وصفها لسنة من العمل المستمر دون كلل أو ملل في مواجهة الجائحة المستجدة كوفيد-19، حيث قالت لـ»الشعب»: «لم يكن العمل في ظروف استثنائية سهلا، خاصة وأني لم أعرف ذاك الضغط من قبل. فعلى مدار عشرين سنة صنعت الأزمة الصحية الاستثنائية تفاصيل جديدة ودقيقة غيّرت الكثير من أفكاري ونظرتي للحياة. فقد وجدت نفسي بين عشية وضحاها امرأة ترتدي بزة حربية ثقيلة تقف في الصفوف الأولى لتحارب عدو مجهول اسمه فيروس كورونا. لذلك كانت البداية صعبة جدا، لأن التأقلم مع ضغط العمل ورفض المجتمع وصعوبة التوفيق بين المهام الأسرية والمهنية كان متعبا ومضنيا».
«اعتبرتها مهمة مستحيلة»، هكذا وصفت نصيرة الشهر الأول من الأزمة الصحية الاستثنائية قائلة: «عند إعلان حالة الطوارئ الصحية شهر مارس من العام الماضي، أغلقت المدارس ودور الحضانة، لمنع انتشار العدوى وسُرّحت النساء العاملات من مربيات وحوامل وممن يعانين أمراضا مزمنة... أما نحن فلم نستثنَ، بل بقينا في الخطوط الأولى نواجه الوباء بكل تداعياته الصحية والاجتماعية. رفض المربيات رعاية أبنائي الثلاثة بسبب عملي في المستشفى وتعاملي المباشر مع مرضى كوفيد-19، أدخلني في دوامة لا نهاية لها، خاصة وأن زوجي ضابط بالحماية المدنية غير معني أيضا بالتدابير الاحترازية كالعمل عن بعد أو العطلة الاستثنائية مدفوعة الأجر، لذلك كان علي التفكير مليا في الطريقة التي أستطيع بها الحفاظ على ابنائي الثلاثة دون التأثير عليهم بسبب ضغط العمل».
واستطردت نصيرة قائلة: «كان تعامل المحيط مع العامل في المستشفى قاسياً جدا بسبب تحوله إلى مصدر للعدوى، فكان جيراني يتفادون الحديث معي، بتغيير وجهتهم عند رؤيتي. وأتذكر في إحدى المرات عند عودتي من دوامي اليومي بالمستشفى، وجدت جاراتي يقمن بتنظيف وتعقيم العمارة بباب الوادي، وعندما عرضت عليهن المساعدة طلبن مني بكل صراحة البقاء في شقتي ونصحنني بعدم ترك أطفالي يخرجون للعلب مع أطفالهن... أتذكر أنني أصبت بصدمة كبيرة بسبب هذا التعامل الجاف معي، فما معنى أن يتركن أبناءهن يلعبون في مختلف شوارع باب الوادي المكتظة ويمنعون أبنائي عنهم، معادلة صعبة لا ينجح المنطق في حلها».
وعن يومياتها في المستشفى، قالت نصير شرقي: «كان عليّ النهوض باكرا، أحضر وجبة الغداء لأبنائي وفي يوم المناوبة وجبة العشاء أيضا، لأتوجه الى المستشفى لإجراء العمليات المبرمجة بعد تحويل مصلحة جراحة العظام إلى كوفيد. عند دخولي من الباب الرئيسي للمستشفى، أشعر بانقباض في صدري بسبب الخوف والهلع اللذين سيطرا عليّ في بداية الأزمة الصحية، كان الأمر أشبه بالدخول في متاهة، بلا مخرج واضح ومعلوم. كان الالتزام بالإجراءات الوقائية واجبا وفرضا لا أفرط فيه أبدا، حتى وإن تطلب الأمر الشجار مع كل مستهتر ومتهاون ومتراخ في احترامها، كان الحزن يخيم على وجوه العاملين والمستخدمين في المستشفى، لأننا كنا نشعر بأننا أحد الناقلين الإيجابيين للعدوى، لذلك كنا في كل يوم ندخل فيه مكان عملنا نظنه بلا عودة».
وواصلت نصيرة حديثها عن الضغوطات اليومية التي تعرضت لها: «وجدت نفسي أثناء مناوبتي الليلية بمصلحة الإستعجالات أتعامل مع جميع المرضى على أنهم مصابون بالعدوى، ما شكل ضغطا رهيبا بسبب قلة وسائل الوقاية في بداية الجائحة، خاصة الكمامات الطبية المخصصة للحماية من العدوى، إلى جانب ضغط تعويض زميل أصيب بالعدوى أو توفي بسببها وهو الوضع الذي زاد من تعقيد حالتي النفسية، خاصة في ظل الخوف من نقلها الى أسرتي. ولتفادي ذلك، منعت عن أبنائي الاقتراب مني، بحيث كنت أتوجه مباشرة إلى الحمام للاغتسال وتغيير ملابسي حتى أتفادى أي خطأ غير محسوب العواقب».
في هذا الصدد، تذكرت نصيرة الهلع الذي أصابها بعد ان كشفت التحاليل إصابة أحد المرضى، الذي أشرفت على عملية تخديره بالعدوى، ما أدخلها في حالة هلع وخوف، خاصة بعد منح الإدارة لها 14 يوما لتبقى في الحجر المنزلي، مرتدية القناع الواقي ليلا ونهارا، معزولة في غرفة لوحدها، لا تخرج منها إلا للضرورة القصوى. كان عليها إقناع أبنائها بالبقاء بعيدا عنها، لكن صغر سنهم صعَّب من مهمة استيعابهم للأمر. لكن مع مرور الأيام، وجدت أبناءها أصيبوا بحالة نفسية حرجة، حيث أصبحوا يرفضون الخروج من المنزل حتى وإن كان الأمر متعلقا بزيارة الأقارب. كما كانت تحضر الطعام لزملائها في بعض الأحيان بسبب بقائهم في المستشفى لمدة طويلة بسبب خوفهم من نقل العدوى إلى عائلاتهم، وكذا عدم قدرتهم على الخروج لشراء الطعام بسبب ضغط العمل أو الحجر الجزئي.
هانية... ضغط، جلسات علاج نفسية... فاستقالة
هانية.ل، عون صحة في الشبه الطبي، عاشت الأزمة الصحية الاستثنائية بكل تفاصيلها الدقيقة، كانت بالنسبة لها اختبارا حقيقيا للسلك شبه الطبي، حيث وجدت نفسها محاصرة من كل جهة بسبب ضغوطات مهنية واجتماعية، جعلت منها مجرد امرأة تعرضت لأبشع ضغط عرفته في حياتها. فمن جهة خوف وهلع من مرض مجهول، ومن جهة أخرى ضغط عمل من مسؤولين يبحثون عن رفع منحتهم السنوية على حساب السلك شبه الطبي الذي غالبا ما يعامل بالدونية من طرف الأعلى منهم رتبة.
كانت البداية بالنسبة لـ»هانية» مؤلمة، فقد اضطرت رفقة زميلاتها الى استئجار شقة قريبة من المستشفى الذي تعملن به بسبب خوفهن من نقل العدوى الى أقربائهن، وكذا بعد مسكنهم عن مقر عملهن، خاصة في ظل توقف وسائل النقل والحجر الصحي الكلي لولاية البليدة. فبسبب وفاة والدها، تعيش هانية مع أخيها الذي وجد نفسه تحت ضغط زوجته الرافضة لوجودها معهم بسبب خوفها من انتقال العدوى لأبنائها.
اختارت هانية الابتعاد حتى لا تكون سببا في هدم بيت أخيها، لتبقى قريبة من مقر عملها بالعاصمة. وبالفعل مع مرور الوقت أصبحت تعيش حالة نفسية معقدة، نظرا للضغوطات اليومية التي تمارسها الإدارة على أمثالها. فقد أرغمت على تعويض كل زميل غاب لإصابته بالعدوى، ما جعلها في بعض الأحيان تناوب بمصلحة الاستعجالات مرة في اليومين، بالإضافة الى تعاملها المباشر مع المرضى، خاصة وأن ملابس الوقاية المخصصة لكوفيد-19 كانت تعرف نقصا في بداية الجائحة.
لكن إصابة زميلتها ووفاتها بعد أسبوع فقط من دخولها الإنعاش، كانت القطرة التي أفاضت الكأس، فقد شكلت بالنسبة لها نقطة فارقة ومنعرجا خطيرا أدخلها في حالة نفسية صعبة، تطلب خضوعها لجلسات علاج عند طبيب مختص في الأمراض النفسية. تجاوزت المرحلة، لكنها فشلت في تجاوز حزنها وألمها لفقدان زميلتها التي تراخت في الالتزام بالإجراءات الوقائية، فكان مصيرها الموت. فمشهد والدتها منهارة بسبب عدم تسليم جثة ابنتها لهم، كسر ظهرها وجعلها تقتنع ان مرارة الموت بفيروس كورونا أشد فتكا من الفيروس نفسه على أهل المتوفي.
قالت هانية، عن حالة الضيق النفسي الذي عاشته طوال فترة الموجتين الأولى والثانية لكوفيد-19، إنها احتاجت الى تناول مهدئات لتجاوز حالة الخوف التي أصابتها، خاصة بعد قسوة عائلتها وتعاملها معها كمصدر لنقل العدوى، «شعرتُ بإرهاق نفسي كبير، زاده رفض الإدارة خروجي في عطلة، وإجباري على تعويض النقص على مستوى المستشفى، بعدما كنا نعوض زملاءنا في المصلحة فقط. في إحدى المرات طردت من مصعد العمارة بسبب عملي في المستشفى»، لذلك كانت الاستقالة حلها الوحيد للخروج من قوقعة الضغط الذي عاشته. وبالفعل خضعت لجلسات علاجية مع أخصائي نفساني بعد تعرضها لانهيار عصبي، حيث سمح لها بالخروج في عطلة مرضية، لكنها في أول يوم من عودتها، قدمت استقالتها لتضع بذلك نقطة النهاية لمرحلة كادت تقضي عليها.
خوخة... من مناوبة إلى تنفس اصطناعي
خوخة. ب، مختصة في التخدير والإنعاش، عانت بسبب إصابتها بفيروس كورونا، لكن بنوع نادر، حيث لم يصب جهازها التنفسي بأي تلف أو عجز، بل «ضرب» فيروس كورونا جهازها العصبي، حيث أصابها بالتهاب في المخ، بعد انتقال العدوى إليها أثناء قيامها بمناوبة ليلية في المستشفى، ما استدعى بقاءها في مصلحة كوفيد لتلقي العلاج بعد بلوغ الحمل الفيروسي لديها 60 بالمائة، لتبقى في العناية المشددة وتخضع للبروتوكول العلاجي المتكون من مضادات حيوية، ودواء «غاردينال» المستعمل كمخدر في علاج حالات الصرع الحرجة، لكن بعد ستة أيام بدأت تصاب بتشنجات (convulser) على مستوى جهازها العصبي، فكان التنفس الاصطناعي حلا لأبعاد شبح الموت عنها.
الغريب، أنها عندما ذهبت الى طب العمل، قرر الأطباء عودتها الى العمل بسبب نقص مساعدي التخدير والإنعاش على مستوى المستشفى، ما أدى الى سقوطها وانهيارها، وعودتها الى غرفة الإنعاش ودخولها في غيبوبة من جديد، ورغم تعافيها من كوفيد-19، لكنها تعاني اليوم أثار الفيروس على دماغها، فهي تتناول دواء الضغط الدموي، لأن ضغطها أصبح يرتفع الى 22 و24 مئوية، وكذا تخضع لمتابعة دورية لطبيب مختص في الأمراض العقلية لمراقبة تطور حالة جهازها العصبي المتضرر من الفيروس.
اعتراف بالمجهودات المبذولة
اتفقت الكثيرات من مستخدمي الصحة من السلك شبه الطبي، على ضرورة تثمين الدور الذي قامت به المرأة في الأزمة الصحية الاستثنائية التي عاشتها الجزائر، حيث واجهت تداعياتها الصحية والاجتماعية بسبب النظرة الإقصائية للمجتمع، حيث اعتبرهن ناقلات للمرض، فعانت الأم بسبب انعدام دور حضانة لأطفالهن، بسبب غلقها وتخوف الجميع منهن.
وتساءلت عن سبب تأخر صبّ المنحتين الثالثة والرابعة لكوفيد-19، كما أصرت على ضرورة التزام الوصاية بوعودها، حيث التزمت بمراجعة السلم الوظيفي للعاملين بقطاع الصحة وتحسينه، وطالبن باحتساب شهرين من الأزمة الصحية الاستثنائية للعاملين في قطاع الصحة سنة في التقاعد، وأكدن أنهن يشعرن أنهن مظلومات من مجتمع قلّ تضامنه مع المرأة العاملة في قطاع الصحة، والنظر إليهن كناقلات للمرض وفقط، ما أدى الى إصابة الكثير منهن بانهيار عصبي، أو اللجوء إلى الاستقالة كحل أخير للخروج من عنق الزجاجة.